عندما يذهب أحدهم إلى الطبيب ، ويقول له : " أنا أسمع أصواتاً داخل رأسي " ، فأغلب الظن أن هذا الطبيب سيرسله إلى طبيب نفسي . وفي الواقع ، إفتراضياً وبطريقة مشابهة جداً ، فالجميع يسمعون صوت أو عدة أصوات داخل رؤوسهم أغلب الوقت.وهي التفكير اللاإرداي والذي لا تستوعب أنك تملك القدرة على إيقافه .
بالتأكيد أنك قد مررت بأناس مجانين يكلمون أنفسهم . حسناً هذا لا يختلف كثيراً عن ما تفعله أنت ويفعله أغلب الناس الطبيعيين ، باستثناء أنك لا تفعله بصوت مرتفع . وهذا الصوت يعلق ويناظر ويحكم ويقارن ويتشكى ، يحب ويكره وما إلى ذلك . وأيضاً هذا الصوت ليس بالضرورة أن يكون متعلق بالموقف الذي تجد نفسك فيه ، فقد يقوم بإعادة إحياء الماضي القريب أو البعيد ، أو يتصور ويتخيل المواقف المستقبلية ، وغالباً ماتكون هذه الأمور التي يتخليها تحدث بصورة سيئة ولها نتائج سلبية وهذا ما يسمى : بالقلق . وفي بعض الأحيان يصاحب هذه الأصوات صور خيالية أو ماقد يسمى بالأفلام العقلية
وحتى لو كان هذا الصوت الذي تسمعه متعلق بموقف في الحاضر ، فإنه سيتخلله مصطلحات وأحداث من الماضي ، لأن ذلك الصوت يعود لعقلك المبرمج نتيجة لكل تاريخك الماضي بالإضافة إلى ماورثته من ثقافتك التي نشأت عليها . فبالتالي أنت ترى وتحكم على الحاضر بأعين الماضي وتحصل على منظر له مشوه تماماً . ويعتبر ذلك الصوت في الغالب هو عدو الشخص الحقيقي . وأغلب الناس يعيشون مع معذب لهم داخل روؤسهم ، يهاجمهم ويعذبهم باستمرار ويسلبهم الكثير من الطاقة الحيوية . وذلك هو سبب البؤس والتعاسة التي لاحصر لها ، بالإضافة إلى المرض
الخبر الجيد هنا ، هو انك تستطيع تحرير نفسك من عقلك . وهذا فقط هو الخلاص الحقيقي . بإمكانك أن تخطو خطوتك الأولى الآن . أبدأ بالاستماع للأصوات التي داخل رأسك متى ما استطعت ، ركز انتباه خاص لأي أنماط متكررة من التفكير . تلك هي مسجلات الصوت التي تعمل داخل رأسك لعدد من السنين ، ذلك ماقصدته " براقب المفكّر ". والذي بطريقة آخرى يعني : " استمع للصوت داخل رأسك ، وكن هناك كالحضور المراقب".
اذا استمعت للصوت فاستمع بحيادية ، لاتحكم ولا تستنكر ما تسمعه ، واذا فعلت ذلك فهذا يعني أن الصوت نفسه قد عاد مرة آخرى من الباب الخلفي . وقريباً ستدرك : أن هناك صوتاً ، وها أنا ذا استمع إليه وأراقبه . "ها أنا ذا " تعني إدراك الإحساس بحضورك ، وهذه ليست فكرة ، إنها تنبع من مكان أسمى من العقل .
عندما تستمع لفكرة ، فأنت تكون مدركٌ ليس فقط للفكرة بل أيضاً لنفسك كشاهد على الفكرة . فقد ظهر الآن بُعد جديد للوعي ، وبينما أنت تستمع للفكرة ، فأنت تشعر بحضور الوعي – نفسك الأعمق – خلف أو تحت الفكرة . عندها تفقد الفكرة قوّتها عليك وتبدأ سريعاً بالتلاشي ، لأنك لم تعد تشحن عقلك من خلال جعله هويتك . وهذه هي نهاية التفكير الإلزامي واللاإرادي.
عندما تتلاشى الفكرة ، تبدأ بملاحظة إنقطاع في الجريان العقلي –فاصل "بلاعقل". في البداية يكون هذا الفاصل قصير جداً حوالي ثواني معدودة ، لكنه يصبح أطول تدريجياً . عندما يأتي هذا الفاصل تحس بنوع من الإنسجام والسلام الداخلي ، هذه هي بداية الحالة الطبيعية للشعور بالوحدة مع الوجود ، التي عادةً ماتكون محجوبة بواسطة العقل . ومع التمرين ، سيزداد الإحساس بالإنسجام والسلام في العمق . وفي الحقيقة ليس هناك نهاية لعمقه . وأيضاً ستبدأ بالشعور بإنبعاث المتعة من الداخل : متعة الوجود.
وهذه الحالة ليست غيبوبة . ليست هي مطلقاً ، لا وجود لفقدان الوعي هنا ، بل العكس تماماً . اذا كان إنخفاض الوعي هو المقابل الذي تدفعه للسلام ، واذا كان فقدان الحيوية والنشاط هو سعر الإنسجام الداخلي ، فهي لا تستحق أبداً الحصول عليها . لكن في هذه الحالة من الاتصال ، أنت أكثر نشاطاً واستيقاظاً ، من الحالة التي كان يسيطر فيها عقلك . أنت حاضر بكاملك . أيضاً هذه الحالة تقوم بزيادة تردد حقل الطاقة الذي يعطي الحياة للجسد
ومع غوصك أكثر في هذه المجال الخالي من العقل ، ستدرك مرحلة من الوعي الخالص. وفي تلك المرحلة ستشتعر حضورك بكثافة ومتعة لا تقارن البتة أمام تفكيرك ومشاعرك وجسدك . ومع ذلك فهذه الحالة ليست " أنانية " بل العكس تماماً . ذلك الحضور أساساً هو أنت ولكنه في نفس الوقت أعظم منك أنت .
بدلاً من " مراقبة المفكّر " تستطيع أنت وببساطة أن تخلق فاصل في الجريان العقلي عن طريق توجيه تركيز إنتباهك إلى الآن . فقط كن وبكثافة ، واعياً للحظة الحاضرة . وبهذه الطريقة أنت تأخذ الوعي بعيداً عن النشاط العقلي ، وتخلق فاصل من اللاعقل ، حيث تكون فيه مدرك ومستيقظ ولكن بلا أفكار ، وهذا هو جوهر التأمل .
تستطيع التمرن على هذا في حياتك اليومية ، بأخذ أي نشاط روتيني تقوم به وإعطاءه إنتباهك بالكامل . مثلاً : كل يوم تستيقظ وتنزل الدرج في منزلك أو في مكان عملك ، أعط إنتباه خاص لكل خطوة ، لكل لحظة ، حتى لتنفسك . كن حاضراً تماماً . أو عندما تغسل يديك ، أعط إنتباهاً لكل حواسك وأنت تقوم بذلك ، صوت الماء وإحساسك به ، حركة يديك ، رائحة الصابون ، وما إلى ذلك . أو عندما تركب سيارتك ، وبعد أن تغلق الباب ، توقف لثواني وراقب إنسياب تنفسك . كن مدركاً لسكون وقوة الحضور . وهناك نظرية معينة تستطيع من خلالها قياس نجاحك في هذا التمرين وهي : درجة السلام الذي تشعر به في داخلك
وأخيراً ، الخطوة الوحيدة والأساسية في رحلتك باتجاه الإستنارة الروحية هي : تعلم عدم التقيد بالعقل . وكل مرة تقوم فيها بخلق فاصل في الجريان العقلي ، كلما كبر نور وعيك وأصبح قوياً
ويوماً ما ستجد نفسك تبتسم على الصوت الذي بداخل رأسك ، كما لو كنت تبتسم على طرائف الأطفال . وذلك يعني أنك لم تعد تأخذ محتويات عقلك بجدية ، لأن إحساسك بنفسك لم يعد يعتمد عليه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق